شوائب الإخلاص










بسم الله الرحمن الرحيم
قد تدخل على السالك آفاتٌ كثيرة تَشُوبُ إخلاصه ، وما هذه الآفات إلا حجب تعرقل سيره إلى الله تعالى ، لذا كان من الضروري الإشارة إليها ، وتحذير السالكين من مخاطرها ، ثم بيان طريق الخلاص منها حتى تكون جميع أعمال السالك خالصة لوجهه تعالى.
الحجاب الأول: رؤيته لعمله وإعجابه به وبعبادته ، وهذه الرؤية للعمل والعبادة تحجبه عن المعبود والمعمول له وهو الله تعالى.
والذي يخلّصه من رؤية عمله علمُهُ بفضل الله تعالى عليه وتوفيقه له ، ورؤيته لعمله بأنّه خلق لله تعالى: {واللهُ خلَقَكُم وما تعمَلونَ} [الصافات: 96]. إلاّ أن له نسبةَ الكسب فقط.
وإذا دقق في صفات النفس ، وعلم أنها كما وصفها الله تعالى: {إنَّ النفسَ لأمَّارةٌ بالسوءِ} [يوسف: 53]. أدرك أن كل خير يصدر منه هو محض فضل من الله تعالى ومنَّة ، وعندئذٍ يتذوق معنى قوله تعالى: {ولولا فضلُ اللهِ عليكم ورحمتُهُ ما زكى منكُمْ من أحدٍ} [النور: 21].

فتخلصُ العبد من رؤية أعماله وإعجابه بها يكون بمعرفة نفسه ومعرفة دخائلها ، فليجتهد الإنسان في تحصيل هذه المعرفة.
الحجاب الثاني: طلبه العوض لعمله ، والعوض إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة.
أما الذي يكون في الدنيا ، فطلبه الشهوات المنوَّعة ، ومنها شهوة السمعة والشهرة ، وحب الظهور وغير ذلك ، وكذلك طلبه للأحوال والمقامات والمكاشفات والمعارف."
ولهذا يقول العارف الكبير الشيخ أرسلان رحمه الله تعالى ناصحاً كل ملتفت إلى غير مطلوبه ومحبوبه ومقصوده: (يا أسير الشهوات والعبادات ، يا أسير المقامات والمكاشفات ، أنت مغرور).
وإنما كان أسيرها لأنها من جملة الأغيار ومن عالم الخلق ، فالوقوف عندها قاطع عن الوصول إلى معرفة خالقها تعالى ، قال تعالى: {وأنَّ إلى ربِّكَ المنتهى} [النجم: 42].
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى معلقاً على كلامه: (إذ لو كنت صادقاً ما التفتَّ إلى شهوة أو عبادة ، ولا مقام ولا مكاشفة ، ولأفردْتَ القصد إليه تعالى وحده دون جميع ما عداه ، ولجَرّدْتَ العزم والهمة فيه تعالى ، وتركت ما سواه. ثم قال: ونقل ابن عطاء الله السكندري في “التنوير في إسقاط التدبير” عن شيخه أبي العباس المرسي رضي الله عنه ، أنه يقول: (لن يصل الولي إلى الله حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله تعالى). ومن كلام بعضهم: (لو رُفعتَ إلى ذروة الأكوان وترقيتَ إلى حيث لا مكان ، ثم اغتررْتَ بشيء طرفة عين فلست من أُولي الألباب).
فالالتفات إلى حسن المكوَّنات والمخلوقات ، والوقوف عندها اغترار وانقطاع).
وطلبُ العبدِ لهذه المقامات وغيرها شهوة خفية ، وذلك إما أن ينالها فيطمئن إليها ، ويُحجب بها عن المقصود ؛ وإما أن لا ينالها عندما سار إليها ، إلا أنه جعلها غاية ، والله تعالى وسيلة ، فيجتهد لتحصيلها فلا يصل ، فيفتر عزمه ، ويقنط وييأس ، وعندئذٍ يرجع القهقرى.

وأما طلب العوض في الآخرة: فدخول الجنة والنجاة من النار.
وتصحيح سيره بأن يعتقد أن دخول الجنة برحمة الله تعالى لا بعمله ؛ فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام: “لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته” [رواه البخاري في كتاب المرضى ومسلم في كتاب صفات المنافقين].
فالذي يُخَلِّص العبد من طلب العوض على عمله عِلْمُهُ بأنه عبد محض ، وأنه لا ينال دخول الجنة والنجاة من النار إلا بفضل الله تعالى ، والعبد لا يملك مع سيده شيئاً ، إذ عبادته لله تعالى لمحض العبودية ، فما يناله من الأجر والثواب تفضلٌ وإحسان من الله تعالى في الدنيا والآخرة؛ وكذلك توفيقه للعبادة ، فإذا ما شهد هذا التوفيق من جملة نعم الله عليه ، يسارع في شكر الله على هذه النعم ، عندئذٍ يخلص من طلب العوض لعمله.

والحجاب الثالث: رضاه عن أعماله واغتراره بها.
وتخلصه من شائبة الرضا بعمله يكون بأمرين:
أولهما: الإطلاع على عيوبه في أعماله ، فقلَّ عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب ، وللنفس فيه حظ.
أما نصيب الشيطان ، فقد أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما سئل عن التفات الرجل في صلاته ، فقال: “هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد” [رواه البخاري في كتاب أبواب صفة الصلاة عن عائشة رضي الله عنها. والترمذي في كتاب أبواب الصلاة وقال: حسن صحيح].
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (فإذا كان هذا الالتفات طرفة أو لحظة ، فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله تعالى! هذا أعظم نصيب للشيطان من العبودية) [“مدارج السالكين” ج2/ص51].
وأما حظ النفس من العمل ، فلا يعرفه إلا أهل البصائر من العارفين.
ثانيهما: علم العبد بما يستحقه الرب جلّ جلاله من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها. فلو اجتهد العبد بالليل والنهار لرأى نفسه مقصراً تجاه الله تعالى ، وأين العبد العاجز الضعيف من خالق الأكوان؟ لهذا بيَّنَ لنا الله تعالى أن موقف خلقه منه التقصير فقال: {وما قدَرُوا اللهَ حقَّ قدرِهِ}[الزمر: 67]." (انظر: حقائق مجهولة ، للشيخ عبد القادر عيسى)
لذا فخلّ نفسك والخلق وكلّ شيء سوى الله وراء ظهرك وأقبل عليه كما أقبل أهل الهمم العالية مخلصا له الدين ، تلبية لندائه تعالى: {فَفِرُّوا إلى اللهِ} [الذرايات: 50] ملبياً له قائلا بلسان قلبك: تركت الناس كلهمُ ورائي وجئت إليك لترضى ، حققني الله وإيّاك بحقيقة العبودية وكمال التوحيد والإخلاص.