بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى في سورة سبأ
(يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السّماء وما يعرج فيها وهو الرّحيم الغفور).

ما نزال سائحين في رياض الله نسير بين سنابلها، نجني منها خبزاً أبدياً نصنع منه حياةً ونحيي به أرواحاً.
في رياض الله تصطفّ السنابل – أقصد الكلمات – على نظامٍ بديعٍ من الاتّساق والتناسب، تأخذ كلّ كلمةٍ مكانها فتغدو واسطة عقدٍ ما كان لبشرٍ أن يمدّ يده إليها بسوء.
تأمّل قوله تعالى آنفاً تر أن كلمة (الرّحيم) لم تأت متقدّمةً على كلمة (الغفور) إلّا في هذه الآية، اقرأ – إن شئت – قوله تعالى: في سورة البقرة: (فإن انتهوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ) (192) وفي سورة الحجر: (نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم) (49)..

وفي سورة النحل: (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم).
وهكذا يطرّد هذا النظام، فلا يأتي الغفران إلا مقدماً على الرحمة، وهذا أمرُ بدهيٌ عملاً بقاعدة: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) فالغفران تكفيرٌ لذنبٍ موجبٍ سخط الله، أما الرحمة فهي جلب مصلحةٍ للعبد بإدخاله الجنة.

إذا عرفنا هذا بقي السؤال المحيّر، لم اختلف هذا النظام في الآية السابقة من سورة سبأ؟!!.
إن الإجابة عن هذا السؤال تنكشف بمعرفة الحقيقة القرآنية التالية: إذا عدنا إلى كتاب الله وتأملناه رأينا أن الرحمة تقترن بالعلم على نحو يلفت النظر، اقرأ إن شئت قول الله تعالى في سورة الكهف: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلّمناه من لدنّأ علما) وقوله في سورة غافر: (ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلما) وغيرها من الآيات كثيرٌ يشير إلى أن العلم غالباً ما يقترن بالرحمة لأن العلم لا يمكن أن يسخّر لخير البشرية إلا إذا اقترن بالرحمة، فإذا انعدمت الرحمة انقلب العلم إلى وحشية وظلم وتدمير.
وحاول أن تمد ناظريم فوق الأسوار تر دول العلم والحضارة حينما نزعت منها الرحمة انقلبت دول شرّ وظلمٍ وأضحى علم أهلها مطيّة الفساد والوحشية والضياع، وصدق الشاعر إذ يقول:
ماذا يفيدك بعد اليوم يا بشرُ إن كنت بالعلم لا بالجهل تنتحرُ

فإن علمنا هذه الحقيقة وعُدنا إلى الآية من سورة سبأ ألفيناها متصدّرةً بالعلم: (يعلم ما يلج... وهو الرحيم الغفور).
ولا بد للعلم أن يقترن بالرحمة، وهنا يكمن السر في تقديم الرحمة على الغفران خلافاً للنظام المألوف، فليلتمس أهل العلم مكان الرحمة من قلوبهم: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك).. صدق الله العظيم.


المصدر : من كتاب ( نظرات في كتاب الله )