فإنَّ شرَفَ المرْءِ وكُلََّ عزِّهِ -إذا أرَادَ اللهُ
بعبْدِه خيرًا- أن يَجْنَحَ للعلم ِوالعمل، والاقتداءُ بالسّلفِ المُبَارَكِ الطـيَِّب،
إذ كانُوا -ولا زالوا إذا ذُكرُوا- أرْفعَ الأممِ وأقواها وأحسنَها، لمّا
تمسّكُوا بحَبْل الله المَتِين، فعِزَّتُهم شامِخَة، وهِمّتُهم في سَماءِ المَجْدِ لا
تعْرِفُ ولا تعترفُ إلاّ بالله، فنَالت بكلّ جدارَة ٍشرَفَ الخِلافَة،
و...تحَطّمَت حوْل إيمانِها العظيم ِبُرُوجُ العظمةِ المُزيَّفة، وأذّن المُؤذِّنُ في
الخَافِقيْنِ: "الله أكبر"، وكتبُوا على طُرَّةِ
النَّصْرِ المَكِين: ﴿إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُم﴾ [الحجرات/13]، فاسْتنَارَتْ
الخَلِيقَة بهَوْل ٍمن الحقائق ِبعدما كانت في سُكون ِالظّلام تَخْسِفُ
بعُقُولِها الأدْعِيَاءُ، وتزَيَّنَتِ الأرْضُ بنُجُوم ٍلا تعرفُ الأفُول، وتبَرَّجتْ شَمْسُ
الأيّامِ تُبْهِرُ بجمالِها لايسْألها أحَدٌ عن سِرِّها فلمْ يكنْ سِرُّها مكتومًا.
ثم هناك وفي الطرَفِ البَعِيِدِ، في الوَجْهِ الآخَرِ من الوُجُود، حيثُ يَتّسِعُ
المَجَالُ، داخلَ قلِيبِ التحَالُفِ المُظْلِمِ النّجِس، يَقبَعُ الشّيْطانُ
الرّجيم يخطبُ بغَضبَةِ الإزْهاقِ قائِلا ًلِجُنودِه: يا مَعشَرَ الجنود اسْمَعُوا وعُوا: سَبَبَانِ لا
ثالثَ لهُما، بهما يَشْقى أعْدَاءُكم من بَنِي آدم "الظُلمُ
والجَهل"، وقد أخرَج الوَحيُ المسلمين من هذه الظلمات ِإلى "العلمِ
والعَدْل"، فلا بُدّ أن نَرُدَّهم إلى أصْلِهم، فسَألُوهُ بحَمَاسٍ: وكيْفَ يا أيُّها
الرَّئِيس؟ فقال: ألا تعْرفُون؟ هما أصْلانِ لا ثالثَ لهُما "الشَّهْوَة ُ
والشُّبْهَة" فالشّهْوة تََعْترضُ الإرَادَة، ومادَّتُها حبُّ الدُّنيا وكرَاهِية المَوت؛
والشُّبْهة تعترضُ التصَوُّرَ فتُفسِدُه، وسُلطانُها الكِبْرُ والغرُورُ والعُجب،
فيَتمَهّدُ بالأولى السُّوءُ وَالفحْشاء، وبالثانيةِ القوْلُ على الله بغير علم،
واحرصُوا في كلِّ ذلك على أن تسْتدرجُوهم خَطْوة ًخَطْوة، فهذا هو المَنهجُ
"الدعوة إلى السّعير"، فتذكرتُ قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا
مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)﴾ [البقرة]
ثم أكملَ الخبيث مُضيفا: واحْرِصُوا على النّزْغَتيْن "الإفرَاطُ والتّفريط"، فمن كان منهم ضَعِيفَ
العَزْمِ فخُذوهُ بالرُّخَصِ حتى يَترُك التدَيُّنَ أو يَزْعُمَ أنَّ الذنُوبَ لا
تضُرُّ الإيمان، ومن كانَ قَوِيَّ العزْمِ فاحْمِلوهُ على الحَزْمِ والتشَدُّدِ حتى
يَمَلَّ أو يَحملَ السّيف، وادْخلوا على العُبّاد بالشُّبُهات فإنَّهم ضِعَافُ
العُقول، غاصُوا في أعمال القلوبِ والبَواطِن، ولم يَحرصُوا على سُنّةِ
نَبِيِّّهِم وشَريعَتِه الظاهرَةِ، فالعَبُوا بهِم كمَا لعِبْتُ أنا بالنّصَاَرى من
قَبْلهم فإنّهم على سَنَنِهم ماضُون، فزَيِّنُوا لهم تحقيق الشُّهُود على أنَّهُ
غاية المطلوب، ثم أدخِلوا عليهم ِوحْدَةَ َالوُجُود، وما عليْكم بعْدَ ذلك إذا
صَلّـوا وصَامُوا فإنَّما هم من جُنُودِي؛ ثم بعد ذلك العلماء، اجْعَلوهُم يَظنُّون
أنَّهم أوتُوا العلمَ لِمَزِيَّةٍ فيهم أوْجَبَت هذا الفضلَ، وانْفُخُوا في
عُقولِهِم، فيَغْترُّونَ بفُهُومِهِم، ويَعْجَبُون بآرَائِهم، وعِنْد ذلك
افْتحُوا عليْهم بَابَ الجدَالِ والمِرَاءِ والخُصُومَات، ثم أبْعِدُوهم عن الذ ِّكر
والطّاعَاتِ وخاصة ًأعمال القلوب، فهناك تقسُو قلوبهم فيخلدُوا إلى الأرض،
ويَترُكوا الاتّبَاعَ، ويخرجوا عن الآثار إلى الرَّأيِ والعَقل -كما خَرَجَ العُبَّادُ
إلى الذّوْقِ والوُجْد-، فبهذا يُشبِهُونَ الأمَّة َالغَضَبِيَّة َمن اليَهُود،
فإنَّهم تعَلّمُوا العلمَ ولمْ يَعمَلوا به فَقسَتْ قلوبُهم، واشْترَوْا الدُّنيَا
بالدِّين وحَرَّفُوا كتابَهُم وقَتلُوا أنْبيَاءَهم إلى آخرِ ما لعِبْتُ عَليْهم
بهِ وأغْويْتُهم به. ثم سَكَتَ من دَرْسِهِ وكأنَّهُ يفكّر في شيء!!، فجَاءَه سُؤالٌ
في سُرْعَةِ البَرْق: فكَيْفَ بأهل العلمِ والعمل؟ فوقف إبْلِيسُ طَوِيلاً حتى
عَلَتْهُ الرُّحَضَاءُ ثم قال: إلاّ هؤُلاء، إلا هؤلاء، فإنّهم مَعْصُومُونَ
مادَامُوا على ذلك، ظَاهِرينَ على الحَقِّ، لا يَضُرُّهم مَن خَالفَهم ولا من خَذلَهُم
حتى يأتِيَ أمْرُ الله، أولئك المُخلِصُونَ الذِينَ ليْس لنَا عليهم سُلطَان، أولئك
المُعتصِمون بالله، المُتوَكِلونَ عليه، المُسْتمْسِكُونَ بالقرآن
والحَدِيثِ وآثارِ الصَّحَابَةِ والتابِعِينَ، في جَمِيعِ أبْوَابِ الدِّينِ، ولم
يَحِيدُوا عنها لِشَهْوَةٍ ولا لِشُبْهَة، وجَعَلُوا هذِه الأصُولَ أصْلَ وَلائهِم
وبرائهم، أولئك أتبَاعُ الأنبيَاءِ وَأنْصَارُهم في كلِّ زمَانٍ، هُم أهْلُ
حَرْبي وأعْدَى أعْدَاِئي، فَكَمْ من قتِيلٍ قَتلتُـه قد أحْيَوْه، وكم من
ضَالٍّ تائِهٍ قد هَدَوْه، وكلما لبَسْتُ الدِّينَ بالشُّبُهَات كشَفُوها، وكلما
أغْوَيْتُ جَمَاعَة ًمِنْهم وعَظُوهَا، فهم لأفاعِيلِي بالمِرْصَاد، ولوْلا هُم
لخَطَبَ زَنَادقِتِي على أمَّّةِ مُحَمّد، قد شَهَرُوا سَيْفَ التَّحذِير،
وأقامُوا على كلِّ المُنكَرَاتِ سُوقَ النَّكِير، فانتشرُوا من قَبْلِ أن يَتمَكّنُوا
من ذلك، وفي الأخير أدُلـكم على خُرَاسَان، فبِهَا الجَهْمُ ومُقاتِل، ثم اغْدُوا
إلى البَصْرَةَ ِلِمَجلس ِأفضَلِ حُكمَائِهم في هذا الزّمَان ِالحَسَن
البَصْري، وعَليْكم بالرَّجُليْن: واصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وعَبدِ الوَاحِدِ بنِ زَيْد،
فلعلكم تغْنَمُونَ -بَعْدَ الخَوَارِجِ والشيعة والقَدَريَّة- بالجَهْمِيَّةِ
والمُشَبِّهَةِ والمُعْتِزلةِ والصُّوفِيَّة، ثم انْفُذُوا لها السُّلطانَ عند
السُّلطان، فعندها تقومُ الدَّوْلة، وتنْطَمِسُ قـوَّة َاليَقِين، وعندها
تعْلو الشَّيَاطِين. فارتفع الصراخ!! وقام شيخُ الشُرُّورِ مُتَمْتِمًا بصوت
حزين: ولكنْ... ليسَ للأبَد، وهنا تَحْدُثُ الضَّجَّة، ونَتَسَابَق إلى باب القدر، فإذا
بذلك الوَهَجِ السَّّاطِعِ التـليد -الذي يَقذِفُ كالبُرْكَان-، وَقَفَتْ
أيَّامُ النَّاسِ ببَسَالِةٍ على شَفِيرِهِ فَاتحة ًلأنْوَارِهِ الأبْوَاب، كيمَا
تُصِيب أرْضَ التـجْدِيد، فتنير بضِياء ِالشَّظَايَا مِشكاة الطِّين الرّطِيب، ثم
تُرسِلُ ألسِنَتَها بعَقدِ التـوحِيدِ والسُّنَّةِ، فتَحْرِق كلَّ عنيد، فكان
الوَعْدُ، وكانت النُّبُوَّة، وكانتْ سُخْرِيَّة الحَقِّ وأزْمَة البَاطِِل ِفي
وَادِ العَقِيق، فعِنْدَهَا دَبَّرَ مَجْلِسُ الخَوْفِ الحُجّةَ بالخَوْف،
وتمَالؤُوا في هَيْئةِ طَيْرِ السَّلام على صَلبِ الفِطْرَةِ أو إحْرَاقِها بنَارِ
المَجُوس، فأضْحَت تـبْرِقُ من ِ طِلّسمِ الكَيْدِ -من بَعِيدٍ- رُعُود العَذابِ،
وتـزَلزَلَ حَوْلَ البَيْتِ بَعْضُ حُمَاتِه، ثم اقـتـضَبَ الكَاتِبُ السُّطُور،
لكنَّ البَيْتَ مَصُونٌ، تَرْفُلُ في أطْرَافِهِ المُمْتدَّةِ وراء الحُدُود
جُنُودَ الضِّيَاء، وتنْعَمُ في الآفاقِ برَيَاحِينِ وُرُودِهِ دَعَواتُ
الصَّالِحِين، وإلى البِدايَة من جَدِيد، وحَركَة الكَوْن ِلا
تتبَدَّل، ترْنُو إليْنا مَادُمْنا جِيل العِلم والعمل، فليست المعرَكةُ ُمعركة َالقدَر
فقد فُرِغ مِنْه، ولا ذََوْق الحَيَاةِ المَزْعُومَةِ في سُفُن ِالحَدِيد وتيَّارَاتِ
النَّار، وإنّمَا هو الابتلاء، تنْسَجِمُ في أدَرَاجِهِ الأسْبَابُ حتى
تبلغَ الإسراء، ووقتَها يلبس العدلُ تاجه باستحقاق، وتدركُ "سفينة
نوح" فتحها المنشود، وتمدُّ أشرعتها في أفق التمكين، لتبلغ بها "ريحُ سليمانَ" ما بلغ الليل
والنهار، ولكن ليس للأبد، فالكتاب آل إلى منتهاه، وصاحت صفحته الأخيرة تقرأ للناس
أشراطَ الخراب لتشهد البشرية الحقيقة الغائبة، ولتعُودَ المَمْلكَة ُإلى رَبِّها
وسَاعَتهَا تَرْحَلُ المَرْأةُ العَجُوزُ تـهَنِّىءُ الأسْرَى بيَومِ الفَكَاكِ،
نعم وإلى الأبَد...ثم لا تعُود.

والحمد لله رب العالمين