دخل علي رجل يشتكي من سرقة سيارته وعلمت بعد ذلك أن لديه سبعة أطفال عميان لا يبصرون ، وهذه القصة التي سأرويها لكم ما زلت أتذكرها على الرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً عليها ، وهذه الحادثة تأثرت بها وعشتها عندما كنت وكيلاً للنيابة العامة في بداية عملي في سلك القضاء ، فدخل مكتبي رجل كبير السن وعلامات الحزن ظاهرة عليه وهو يروي لي حادثة سرقة ماله وسيارته ، وقال: إني عملت خلال السنتين الماضيتين لجمع ألفي دينار لعلاج عيون اثنين من أبنائي ، وقد سمعت عن طبيب جيد خططت أن أسافر له اليوم لإجراء العملية الجراحية بهذا المبلغ ، وقد تركت المبلغ الذي جمعته لهما في السيارة ، إلا أنها سرقت في صباح هذا اليوم فضاع كل جهدي وتعبي.
وكنت أستمع له بإنصات وأنا أقول في نفسي سبحان الله ما هذا الابتلاء العائلي ، فأحببت أن أخفف عنه مصابه فقلت له مسلياً (لو كشف الله لك غطاء الغيب ما اخترت إلا الواقع)
فشعرت من قسمات وجهه أنه لم يعجبه كلامي ولكني مارست عملي ثم ودعته وانتهى الأمر ، وبعد أسبوع من الحادثة اتصل بي رجال المباحث وأبلغوني أنهم وجدوا السيارة المسروقة في الصحراء ، وليس فيها وقود فقالوا ربما سرقها صبيان صغار للتسلية بها ولما انتهى الوقود تركوها بالصحراء ، فقلت لهم المهم افتحوا درج السيارة وابحثوا لي عن المبلغ الذي تركه ، فأخبروني أنهم وجدوا ألفي دينار ففرحت كثيراً بهذا الخبر وطلبت منهم أن يحضروا السيارة والمبلغ ، ودعوت الرجل صاحب الشكوى وأنا سعيد لأني سأسعده بالخبر وأساعده على استكمال عملية ابنيه ليبصرا من العمى.

فلما دخل علي استقبلته بقولي: يا عم عندي لك مفاجأة وبشارة ، فرد عليّ بنفس الأسلوب والطريقة وقال: وأنا عندي لك مفاجأة وبشارة ، فتوقفت قليلاً وقلت في نفسي لعل رجال المباحث أبلغوه بالخبر ولكني أوصيتهم ألا يخبروه ، فقلت له وأنا على يقين أنه لا يعرف أننا وجدنا السيارة والمبلغ ، أخبرني ما هي مفاجأتك؟ ، فقال: أنت أخبرني أولاً ما هي بشارتك؟

فقلت: أبشرك أننا وجدنا السيارة سليمة وكذلك وجدنا فيها الألفي دينار في المكان الذي وصفته لنا فلم يذهب تعبك سدى ، وكنت أقول الخبر وأنا مبتسم وفرحان وأراقب ردة فعله ، فكان يستمع للخبر وكأنه أمر عادي ولم يتأثر به كثيرا ، فقلت في نفسي (الله يستر) ربما حدث شيء لأطفاله ، ثم تمالكت نفسي وقلت له والآن جاء دورك فأخبرني ما هي بشارتك ؟


فقال لي: هل تذكر ما هي الكلمة التي قلتها لي ؟ قلت: نعم ، فقال: رددها مرة أخرى ، فقلت (لو كشف لك غطاء الغيب ما اخترت إلا الواقع ) فقال: ماذا تعني ؟ قلت: إن الله تعالى يقدر الابتلاء للإنسان بما فيه مصلحته ولكن الإنسان أحيانا يعترض على القضاء ولا يعلم أن ما قدره الله تعالى فيه خير له ، فلو قدر الله لك أمراً تكرهه ثم كشف لك الغيب ، وقال لك يا عبدي اختر أنت أي قضاء تريده أن أقضيه عليك ، فإذا اطلعت على جميع الاحتمالات فإنك ستختار ما اختاره الله لك من قضاء وقدر ، وهذا معنى (ما اخترت إلا الواقع).

فابتسم وقال: نعم كلامك صحيح مائة بالمائة ونعم بالله فالله لا يختار لعبده إلا الخير ، فقلت له: وما هي بشارتك ؟ فقال: أبشرك أن الطفلين اللذين جمعت من أجلهما المال قد صارا بعد يومين من حادثة السرقة يبصران كما لو لم يكن بهما شيء ، فقد أبصرا وكأننا عملنا لهما العملية ، فقلت له: سبحان الله فانظر إلى الحكمة من قدر الله ولطفه لك فقد أخذ الله منك سيارتك ومالك الذي جمعته من أجل علاجهما ، ثم رد على طفليك بصرهما وبعدها رد عليك سيارتك ومالك ، أي نعمة أعظم من هذه!

فقال : الحمد لله ولكن الإنسان عجول ودائما معترض على قدر الله

فقلت له : نعم (لو كشف لك غطاء الغيب ما اخترت إلا الواقع ) فابتسم وانتهى اللقاء ، ولكنه درس لن أنساه أبداً.