جعل الله سبحانه وتعالي لنا مواسم للخيرات يزداد فيها المؤمن إيمانا ، ويتوبُ فيها العاصي إلى الله توبة صادقة ، فالسعيد من اغتنم هذه المواسم المباركة بفعل الطاعات ، والشقي من حرم نفسه خيرها، ومن هذه المواسم المباركة شهر المحرم ، الذى يظلنا فى هذه الأيام .
شهر المحرم هو أحد الأشهر الحرم التي قال اللهسبحانه وتعالي عنها في كتابه العزيز: " إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ..." ( [1] )
وقد فصلت السنة النبوية المشرفة هذه الأشهر الحرم ، فعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ" ( [2] )
وذهب بعض أهل العلم إلى أن أفضل الأشهر الحرم هو شهر المحرم . قال الحسن البصري : إن الله افتتح السنة بشهر حرام و ختمها بشهر حرام ، فليس شهر في السنة ، بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم . ( [3] ) وكان اسم المحرم في الجاهلية صفر الأول ، ثم لما جاء الإسلام سماه رسول الله صلي الله عليه وسلم شهرَ الله المحرم ، كما جاء فى الحديث الذى رواه أبو هريرة رضي الله عنه :" أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ ... " ( [4] )
فلم خُصَّ المحرم بهذا الاسم : شهر الله دون سائر الشهور، مع أن فيها ما يساويه في الفضل أو يزيد عليه كرمضان ؟
قلت : فى الديباج على مسلم وجدت ما يجاب به : أن هذا الاسم إسلامي دون سائر الشهور؛ فإن أسماءها كلَّها على ما كانت عليه في الجاهلية ، وكان اسم المحرم في الجاهلية صفر الأول ، والذي بعده صفر الثاني فلما جاء الإسلام سماه الله المحرم فأضيف إلى الله بهذا الاعتبار ( [5] )
وإضافته إلى الله سبحانه وتعالي تدل على شرفه وفضله ، فإن الله سبحانه وتعالي لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته ؛ كما نسب محمدا و ابراهيم و إسحاق ويعقوب وغيرَهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى عبوديته ، ونسب إليه بيته وناقته. ( [6] )
ومن فضال شهر المحرم أن الله نجى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون وقومِه ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قدم النبيصلي الله عليه وسلم المدينة فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : " مَا هَذَا ؟ " قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى شكرا لله قَالَ صلي الله عليه وسلم :" فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ." ( [7] )
وليس صيامه صلي الله عليه وسلم له تصديقا لليهود بمجرد قولهم ، بل كان يصومه مع قريش قبل البعثة ، لما فى الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَصُومُهُ فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ " ( [8] )
ومع وضوح هذه السنة ، وصحة نسبتها إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنه لم يصح فى فضل شهر المحرم عامة ، ويوم عاشوراء خاصة من الصالحات إلا الصيام ، فإنه يقع من الناس فى هذا الشهر وفى هذا اليوم بالذات ــ يوم عاشوراء ــ كثير من البدع ، منها مالا أصل له ومنها ما يبنى على أحاديثٍ موضوعة أو ضعيفة .
ففى فضل الصيام فى شهر المحرم :
قال رسول صلي الله عليه وسلم :" أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ " ( [9] )
هذا الحديث فيه تصريح بأن المحرم هو أفضل الشهور لصوم التطوع ، وقال القرطبي: إنما كان صوم المحرم أفضل الصيام من أجل أنه أول السنة المستأنفة فكان استفتاحها بالصوم الذي هو أفضل الأعمال . ( [10] )
وانطلاقا من هذا الحديث فإن أفضل الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المسلم في شهر المحرم هو الصيام ، فينبغي لكل مسلم أن يكثرمن صيام التطوع فيه ، ولتتذكر أن الصوم له فضله وثوابه العظيم عنــد الله سبحانه وتعالي :
1- عن سهل رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم : " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ " ( [11] )
2- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا "( [12] )
3- عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ قَالَ : "عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ " ( [13] )
هذا عن فضائل الصوم بصفة عامة ، أما عن فضل صوم عاشوراء :
فعن أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ صلي الله عليه وسلم : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ " ( [14] )
لقد كان نبينا صلي الله عليه وسلم حريصا على صوم يوم عاشوراء وإرشاد أمته إلى صيام ذلك اليوم المبارك لتنال المغفرة الربانية الكريمة وذلك من خلال أحاديثٍ كثيرة منها :
1- عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ : أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُـورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: " مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ" ( [15] )
ينبغي أن نعود أطفالنا الصغار فعل الخيرات ، ونعلمهم اتباع سنة نبينا صلي الله عليه وسلم منذ نعومة أظفارهم ، ولذا علينا أن نعرفهم فضل صوم رمضان والمحرم وغيره من مواسم الخيرات ، ونشجعهم على الصيام ، وذلك بأن نعطيهم بعض الهدايا أو القليل من المال ، ولنتذكر الحكمة المعروفة : أن التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر ، فالتربية الصحيحة في سن الطفولة لها أثر كبير في حياة الإنسان.
2- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : " مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ " ( [16] )
3- عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنه يقول في عاشــوراء : " خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر" ( [17] )
فانظر أخي الكريم إلى هذا الفضل الجزيل من رب كريم واغتنم هذه الفرصة المباركة ، واعقد النية من الآن على الصيام ، ولا تجعل هذا اليوم يمر عليك دون أن تصومه ، إلا إذا كنت صاحب عذر شرعي كمرض أو كبر سن أو غير ذلك ؛ فصوم يوم عاشوراء كما رأينا له فضل عظيم عند الله ، فعلى كل مسلم أن يغتنم صوم هذا اليوم خالصا لله وحده رجاء أن يغفر الله له ذنوب السنة الماضية .
التحذير من الابتداع فى الدين :
رغم وضوح فضلِ المحرم شهرِ الله الحرام ، وموقعِه بين شهور العام ، على ضوء الكتاب والسنة ، فإن بعض الكذابين والجاهلين وضعوا أحاديث في فضل هذا الشهر الحرام وصوم يوم عاشوراء ونسبوها كذبا إلى النبي صلي الله عليه وسلم ، إن جهل الكثيرين من الناس بسـنة النبي صلي الله عليه وسلم جعلهم يبتدعـون في دين الله ما ليس منه ، ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالي قد أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ، ولا يجوز لنا أن نبتدع شيئا في دين الله ليس من الشرع في شىء قال سبحانه وتعالي : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً " ( [18] ) وقال سبحانه وتعالي : " ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" ( [19] )
وقد حذرنا نبينا محمد صلي الله عليه وسلم من الابتداع في الدين ، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ " ( [20] )
لقد أحدث الشيطان الرجيم بسبب مقتل الحسين رضي الله عنه بدعتين :
الأولى :الحزن والنوح واللطم والصراخ والبكاء ، وإنشاد المراثى وما إلى ذلك من سب السلف الصالح ، وقراءة أخبار مثيرة للعواطف ، مهيجة للفتن وكثير منها مكذوب ، وكان قصد من سـن هذه السنة السيئة فى ذلك اليوم هو فتح باب الفتنة والتفريق بين الأمة.
وهذا لاشك فى أنه غير جائز بإجماع المسلمين ، وإحداث الجزع والنياحة وتجديد ذلك للمصائب القديمة من أفحش الذنوب وأكبر المحرمات.
الثانية : بدعة السرور والفرح ، واتخاذ هذا اليوم عيدا بمعنى العيد ويوسع فيه علي العيال.
فكل هذا من البدع المنكره ، والتوسعة وإن كانت مشروعة فى الجملة ، لكن الاحتفاء بها بما يقرب من اعتقادها دينا ، فهذا هو الخلل والخرق بعينه .
وإليك بيان منشأ هذه البدع والأحاديث الموضوعة التى تساندها ، وذلك أنه كان بالكوفة قوم من الشيعة يغالون فى حب الحسين وينتصرون له ، رأسهم المختار بن عبيد الكذاب الرافضى الشيعى الذى ادعى النبوة ، وقوم من النواصب ، منهم الحجاج بن يوسف الثقفي ، يبغضون عليا وأولاده رضي الله عنهم وقد ثبت فى صحيح مسلم عن رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم أَنَّه قال سيكون : " فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا " ( [21] )
والمُبير : هو المسرف في إهلاك الناس ، فكان ذلك الشيعى هو الكذاب ، وهذا الناصبى هو المبير ، فأحدث أولئك الحزن وهؤلاء السرور ، ورووا كذبا : " من وسع على عياله في النفقة يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته " ( [22] ) وغيره من الأحاديث الموضوعة فى فضل يوم عاشوراء .
فصار قوم يستحبون في هذا اليوم الاغتسال والاكتحال والتوسعة علي الأهل والعيال ، وهذه كلها بدع من خصوم الحسين رضي الله عنه كما أن بدعة الحزن وما إليه من أحبابه رضي الله عنه والكل باطل وبدعة وضلالة.
قال العلامة ابن أبي العز الحنفى : إنه لم يصح عن النبى صلي الله عليه وسلم فى يوم عاشوراء غير الصوم ، إنما الروافض لما ابتدعوا المآتم ، وإظهار الحزن يوم عاشوراء لكون الحسين رضي الله عنه قتل فيه ، ابتدع جهلة أهل السنة إظهارَ السرور واتخاذ الأطعمة والاكتحال ، ورووا أحاديث موضوعة في الاكتحال والتوسعة علي العيال .
وجملة القول :أنه لم يستحب أحد من الأئمة الأربعة ، ولا غيرُهم شيئا من ذلك ؛ لعدم الدليل الشرعي ، بل المستحب يوم عاشوراء عند جميع العلماء هو صومه مع صوم يوم قبله كما عرفنا . وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلي آله وصحبه أجمعين
ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين
بمختلف الوسائل عدا الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي)