ما غرّك بِرَبّكَ








بسم الله الرحمن الرحيم
الكون ؛ لا يبدأُ بالذّرّة ولا ينتهي عِندَ حَدّ المَجرّة (والسّماءَ بنيناها بأيدٍ وإنّا لموسِعـون)، وبِقَدرِ رَحابَةِ هذا الكونِ ، بِقَدرِ ما تَضيقُ بإدراكِ كُنهه العُقولُ . فما قِياسُ الإنسانِ إلى سَعَةِ هذا الكونِ إلا كقياسِ نواةِ الذّرّة على فضاءِ المَجرّةِ، بل هو أصغَر، فكُـلـّما مرّت الأيّام تزيّنت الأرضُ وربت وأنبتت من كُلّ زوجٍ بهيجٍ واتّسَعَت أفاقُها وأطرافُها (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)... وأما العقلُ البشريُّ فكُـلّما امتدّت به الأيّامُ قرّبتهُ إلى ضعفِه ومَشيبِه... فأنّى لهذا أن يُحيطَ بِذاك؟ّ!!
بل إنّ الإنسانَ نَفسُهُ، مُحاطٌ بتعقيداتٍ كبيرَةٍ كِبرَ سِرّ الوجودِ نَفسِه، فما الإنسانُ إلا ساكِنٌ طارئٌ في فَضاءاتِ هذا الكون الفسيح، طرأ عليهِ قبلَ عددٍ من آلاف السّنواتِ محدودٍ وسيُغادرُهُ بعدَ عدَدٍ أقلِّ مِنهُ معدودٌ (وعدًا مفعولاً)، وعُلماءُ الفلك والفيزياء على أنّ الكونَ المرئيّ خُلِقَ مُنذُ أكثر من ستّةِ مليارات سنة!!! وأين الألفُ من المِليار!!؟.
إنّ إحاطَةَ الإنسانِ بِكُلّ ظواهِرِ ما (تُبصرونَ وما لا تُبصرون) مِنَ الكونِ المنظورِ وغير المَنظور، والمرئيّ مِنه وغير المرئيّ (بِغير عَمَدٍ ترونَها) أمرٌ لا سبيلَ إليهِ بِمَحضِ العَمَلِ والعقلِ البَشَريّ.
وفي خِضَمّ هذه التّعقيداتِ الّتي لا يَنفُذُ العقلُ البشريُّ عبرها (إلا بِسُلطانٍ) فإنّ الإنسانَ ما زالَ بَعيدًا عَن استِلهامِ المعاني الجَليلة والدّقائق اللّطيفة القريبَةِ مِنه قُربَ حَبلِ الوَتين على أصلِ حقيقتِها لضخامَةِ وفَخامَةِ هذه الحقائق.
فيا أيُّها الإنسانُ (ما غرّك بِرَبّكَ الكريم..؟!!؟)، بربّكَ الّذي أوجدَكَ مِن العَدَمِ أحسانًا مِنه وامتِحانًا، وليس لك عليه في ذلك ضَربَةُ لازِمٍ بل لقد كُنت نسيًا منسيًا، ولم تَكُن (شيئا مذكورًا)، فأنت عارضٌ في عوالم الله المرئيّة أيُها الإنسانُ! فما غَرّكَ بربّكَ الكريم! (الّذي خلقَكَ فسَوّاكَ فَعَدَلَكَ في أيّ صورةٍ ما شاء رَكّبَك؟!؟). ألم تَرَ (إلى الإبِلِ كيفَ خُلِقَت؟!)، أخالُ أنّ عَجرَفَةً فارِغَةً تُناغيكَ هُنا، فلا تأخُذُنّكَ العَجرَفَةُ الفارِغَةُ؛ كأنْ "تَستتفِهَ" التّمثيلَ بالإبِلِ فإنّه بدأَ بِما قَد تَظُنُّ أنّه غيرُ مُعجِزٍ ثًمّ أسكتَكَ بل أفحَمَك بتعقيبِه ذلِكَ بِقولِه (وإلى السّماءِ كيفَ رُفَعَت...)، وما كانَ هذا البِناءُ إلا آيَةً في الإبداعِ والإتقانِ، وسَبقِ الإرادَةِ، وما كانَ – حاشا اللهَ- نَزَقًا أو لهوًا (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)، أفلا تتفكّر لحظَةً بأنّه لا يليقُ أن تقيسَ فهمَكَ وهمَّكَ ومُرادَكَ أنتَ على مُرادِهِ تعالى، فتَظُن وظُنّكَ خَرصٌ أنّه – حاشاهُ- في ذلِكَ مِن "اللاعبين" (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ).



دَعْكَ مِن الرُّعونَة أيُّها الإنسانُ وحرّر عقلَكَ مِن العُبوديّة المُسبَقَةِ لأفكارِكَ الّتي لا تُسمِنُ ولا تُغني مِن جُوعٍ، وتعالَ إلى هذا الكونِ الفسيحِ والتّاريخِ السّحيقِ لتُؤمِنَ أنّكَ عارضٌ عليهِ ضيفٌ – إما شاكًرا وإمّا كَفورًا- في فضاءاتِه اللاحِبَة، فاعلَم أنَّكَ له تَنتَمي وإليه تَنتَهي لا أنّه إليكَ يَنتمي ويَنتهي!!!
إن كانَ قدْ تَحرَّكَ داعي الفِطْرَةِ في عَقلِكَ وقَلبِكَ فأطلِق~ لهُما العَنانَ لَيسرَحانِ ويَعُبّانِ من عوالِمِ الله؛ وتَفَكّر في خَلقِ السّماوات والأرضِ (ربّنا ما خلقتَ هذا باطِلا سُبحانك فقِنا عذاب النّار)!!