يبحث الناس عبر هواتفهم عن التواصل فيزدادون انقطاعا، يشاركون لحظاتهم وأفكارهم وصورهم مع البعيدين، ولكن الوحدة تنهشهم أكثر فأكثر؛ وذلك لخسارتهم الصلات الفعلية الحقيقية، الافتراضي يطغى على الواقعي ويهمشه.

نتائج دراسة حديثة أجرتها جامعة بريغهام يونغ الأمريكية كشفت عن التأثير السلبي للتكنولوجيا على العلاقات، وعلى الصحة النفسية للأشخاص كذلك.

وقال الباحثون: إن التحديات الكبرى والخلافات التي كانت تواجه الأزواج كانت تتعلق بالمال، والأطفال، والاهتمام والعلاقة العاطفية والحميمة، ولكن الهواتف الذكية تصعد بقوة في هذه القائمة.

وسبق أن أجريت دراسات عديدة عن تأثير استخدام الهواتف على العلاقات، ولكن هذه الدراسة تحديدا، تعد الأولى من نوعها التي تتوصل إلى أن طريقة تفاعل أحد الزوجين مع التكنولوجيا يمكن أن توقع الآخر في اكتئاب حقيقي، أو تؤثر على استقراره النفسي.


وباء "الفوبنج"
عندما يهتم الشخص بهاتفه أثناء وجود شخص أو أكثر بالقرب منه، فيتجاهل حديثهم، ويظل متعلقا بالهاتف، ويرد عليهم بصعوبة، أو لا يرد، فإن الرسالة التي تصل إلى المحيطين هي الشعور بأنهم أقل أهمية لديه.

ونظرا لشيوع هذه الظاهرة حول العالم، وتأثيراتها المتعددة سواء على العلاقات الزوجية، أو بين الأبناء والآباء، والأصدقاء، وعلى التآلف الإنساني بشكل عام، وجودة التعليم والعمل والتواصل، فقد اجتمع فريق يضم علماء نفس، واجتماع، ولغة، وتقنية، لنحت مصطلح يعبر عن الظاهرة، وهو "Phubbing"، والذي اعتمده قاموس ماكوراي عام 2012، لكن الكلمة لم يتم تعريبها بعد- رغم شيوع الظاهرة في العالم العربي أيضًا-؛ الأمر الذي يجعلنا مضطرين إلى استخدام الكلمة الإنجليزية التي تتألف من كلمتي "phone" بمعنى هاتف، وكلمة "snubbing" وتعني التجاهل أو الاحتقار.

عندما تتعطل المحادثة بين الزوجين، أو لحظة التقارب بسبب رسالة نصية، أو بريد إلكتروني، أو إشعارات عبر وسائل التواصل، فإن ما يصل إلى الطرف الآخر هي: "ما أقوم به على هاتفي أكثر أهمية منك الآن". أو: "أنا أهتم بهاتفي أكثر منك". وأحيانا ما يصل إلى الآخر هو " أنت لا تستحق انتباهي".

الرفض من أكثر المشاعر إيلاما، حيث يستجيب الدماغ له بنفس الطريقة التي يستجيب بها للألم الجسدي، ومع تكرار هذا الأمر وتحوله لأسلوب حياة، فإن من يقع بحقه هذا التجاهل تتعقد لديه مجموعة من المشاعر والانفعالات، مثل: الشعور بالأذى، وانخفاض المزاج العام، وقلة احترام الذات، وتصاعد الغضب والاستياء، ومع مرور الوقت يمكن لهذه الجروح الصغيرة أن تتفاقم وينتج عنها صراعات عديدة، كما أنها تقلل من الإحساس العام بالرضا عن العلاقة، وعن الحياة بشكل عام، مع ظهور واضح لأعراض الاكتئاب.


ظاهرة "الفوبنج" في الإطار الأخلاقي
الشخص الذي يتجاهل من حوله منشغلا بهاتفه لا يعيرهم اهتماما، يعد متلبسا بشئ من سوء الخلق، في حين أن السيرة النبوية تزخر بما يقرب القلوب، وبما يقوي أواصر المحبة والتآخي، ويحفظ البيوت، ويُحصن الزواج، ولم يقتصر الهدي النبوي على التأكيد على قيمة الأسرة، وعِظم ميثاق الزوجية فحسب، بل أوضح طرق القيام بذلك عبر السنة القولية والفعلية.

ـ فالإسلام يؤسس للعقلية التي تعرف ترتيب الأولويات، وعلى رأس أولويات العلاقات الاجتماعية يأتي الأهل "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وفي أعلى سلم الأمر بالعطاء والمعروف والإحسان يأتي الأقربون "الأقربون أولى بالمعروف".


وما أحوجنا في هذا الأيام إلى ترتيب العلاقات في ضوء هذا الهدي الساطع، فكم من حوار بين زوجين قد فسد لأجل محادثة مع مجهول أو بعيد، وكم من أيام غالية مع الأسرة والأبناء أُهدرت لأجل متابعة فعاليات تافهة، وأخبار سقيمة، وملاحقة وسائل التواصل التي يقطع الإسراف فيها ما يجب وصله.

ـ ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم خير مثال في تأليف القلب، وكسب المودة، وطريقة التعامل، ومن ذلك أنه كان يُقبل بوجهه على من يحدثه، ويستمع لمن يسر له بشيء ولا يبتعد عنه، عند أبي داود عن أنس قال: مَا رَأيتُ رَجُلا التقم" أذنَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي يُنحي رَأسَهُ.
هذا السلوك النبوي من إشعار من يحدثه ويلتقي به بأهميته كفيل بالقضاء على ظاهر "الفوبنج" التي يعدها الباحثون اليوم من أخطر العادات التي تهدد العلاقات الاجتماعية في مختلف أنحاء المعمورة.

ـ تعلمنا السنة النبوية أن السعادة بين الزوجين، والحفاظ على قوة الأسرة لا يكون بالشعارات، وإنما بالسلوكيات اليومية، والتفاصيل التي تحفظ استمرار المودة والرحمة، كأن يفرغ الزوج من وقته واهتمامه للاستماع لزوجته، وملاعبتها، والاطمئنان على أخبارها، والتبسط معها وملاطفتها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مشاغله الومسؤولياته التي لم يتحمل بشر مثلها، يخصص وقتا لكل هذا، ويعلمنا بشكل عملي كيف يعطِ الإنسان لكل ذي حق حقه.

فكيف بمن يهمل زوجته وأولاده، ولا يقبل على زوجته ولا يهتم بها لأنه مشغول بهاتفه لا يطيق فراقه؟!

وكيف بمن لا تكلف خاطرها سؤال زوجها عن يومه؟ وبث السكينة والأمل في قلبه، لأنها مشغولة بالرد على من هب ودب في مجموعات الفيس بوك، والواتس أب، والمشاركة في هاشتاجات تويتر.

ـ استثنى النبي ملاعبة الأهل من اللهو، ففي سنن أبي داود عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه]. ومعناه بينته رواية الدارمي حيث يقول: [كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق].
فهذه الأمور وإن بدت لهواً إلا أن أثرها العظيم، ونتائجها المثمرة، نفت عنها صفة اللهو المذموم.

ولم يكن الاستثناء لرفقة الصحاب، ومراسلة المعارف، والانشغال بأخبار الناس، فضلا عن الانغماس في قيل وقال، أو مشاهدة ما يشوش القلب، ويؤذي الإيمان.

والمتأمل في قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}(الأحزاب:53)، يدرك كيف يحمي الله جل في علاه سكينة البيوت من استمرار حالة المؤانسة مع الأصدقاء والضيوف، فكيف بمن يقتحمون حياتنا عبر شاشات.


نصائح هامة

نصائح للسيطرة على تأثيرات الهواتف سلبا على الحياة الزوجية:

1ـ حماية البيت من الوقوع في مستنقع الإباحية والمواد الرديئة، باستخدام كافة السبل لفلترة الإنترنت المنزلي، وعدم الانغلاق في استخدام الأجهزة المختلفة، فالعزلة تسهل الوقوع في هذه الشراك، فهذه الأمور تجعل وبال إدمان الهواتف لا يقتصر على الانشغال عن الزوج والأبناء، وإنما يفتح بابا واسعا لتدمير الرضا الزوجي، وهدم العفة التي هي مقصود الزواج الأول.

وما أجمل أن يتبادل الزوجان كلمات السر لمواقع وسائل التواصل المختلفة، مع عدم المراقبة والتشكيك، ولكنه يؤسس للثقة المتبادلة، والتي هي من أهم أسس الاستقرار الزوجي.

2- الحذر من التساهل في محادثات الجنس الآخر عبر الإنترنت، فالاصل في ذلك أن يكون لحاجة وبقدر الحاجة.

3ـ يوصي الخبراء بالابتعاد عن الهاتف في هذه الأوقات:

ــ بعد العمل عند العودة للبيت.

ــ أيام الأجازة.

ــ قبل النوم.

ــ اللحظات الخاصة.

ــ وقت النقاش الجاد أو حل الخلافات.

ــ أثناء اجتماع الأسرة لتناول الطعام.

إن ظاهرة تجاهل المحيطين للتعلق بالهواتف "الفوبنج" يتعدى أثرها خطر الإضرار بسلامة الحياة الزوجية، والاهتمام بالأبناء، والتواصل مع العائلة والأصدقاء، لأنها تضر بالاستقرار النفسي للشخص نفسه، وتزيده عزلةً وحرمانًا تحت وهم "التواصل الاجتماعي"، وهي حالة إدمانية يطلق عليها العلماء مؤخرا "الكوكايين الرقمي"، مما يستدعي اليقظة في التعامل معها، والانتباه لأعراضها.