إن شأن التوبة عظيمٌ عند الله تعالى، فهي باب الدخول إلى فضل الله وإحسانه ورحمته، وهي طريقُ الأنبياء الكرام عليهم السلام، وعباد الله الصالحين، وهي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى (التوبة) وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، فإذن (التوبة) هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا، ويدخل في مسماها الإسلام، والإيمان، والإحسان، وتتناول جميع المقامات، ولهذا كانت غاية كل مؤمن، وبداية الأمر وخاتمته، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق والأمر. والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها وأكثر الناس لا يعرفون قدر (التوبة) ، ولا حقيقتها، فضلا عن القيام بها علما، وعملا، وحالا، ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه، ولولا أن (التوبة) اسم جامع لشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم. فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل (التوبة) وآثارها .
والتائب إلى الله إنسان متجاوب مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، والمتمرد على التوبة إنسانٌ ظالمٌ لنفسه مسيءٌ لها وهو يعمل ويتحرك ضدها وضد ما فيه صلاحٌ وخيرٌ له " .
قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُوْنُوْا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوْا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوْا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإِسْمُ الْفُسُوْقُ بَعْدَ الإِيْمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ﴾ .
ومَنْ هذا الإنسان الخاسر الذي يرفع راية التمرد على الله تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء وهو جل وعز القاهر القهار العزيز الجبار بيده نواصي الخلق جميعاً لا يفلت من قبضته أحدٌ منهم، قال الله تعالى: ﴿ ِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ .
قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: ( أخبر عن عموم قدرته تعالى، وأن الخلق كلهم تحت تسخيره وقدرته، وأنه آخذٌ بنواصيهم، فلا محيص لهم عن نفوذ مشيئته وقدرته فيهم، ثم عقب ذلك بالإخبار عن تصرفه فيهم، وأنه بالعدل لا بالظلم، وبالإحسان لا بالإساءة، وبالصلاح لا بالفساد، فهو يأمرهم وينهاهم إحساناً إليهم، وحماية وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم، ولا بخلاً عليهم، بل جوداً وكرماً، وبراً ولطفاً، ويثيبهم إحساناً وتفضلاً ورحمة، لا لمعاوضة، واستحقاق منهم، ودين واجب لهم يستحقونه عليه، ويعاقبهم عدلا، وحكمة، لا تشفيًّا، ولا مخافة، ولا ظلما، كما يعاقب الملوك وغيرهم. بل هو الصراط المستقيم، وهو صراط العدل، والإحسان في أمره، ونهيه، وثوابه، وعقابه ).
فلا بد من التوبة إلى الله تعالى والانخلاع من كل ما يسخطه ويغضبه، قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: «وينبغي أن يُعرف أن التوبة لابد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحدٌ ويحصل له كمال القرب من الله ولا يزول عنه كل ما يكره إلاّ بها، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم عند الله، وهو المقدَّم على جميع الخلق في أنواع الطاعات، فهو أفضل المحبين لله، وأفضل المتوكلين على الله، وأفضل العابدين له، وأفضلُ العارفين به، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره، ولهذا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) "